وكالة مهر للأنباء: وُلد محمد تقي خان فراهاني، المعروف بأمير كبير، عام 1807 ميلادي في قرية "هزاوة" بمحافظة "أراك". نشأ في بيئة بسيطة وفي أسرة متوسطة، لكنه بفضل مثابرته وموهبته العالية أصبح إحدى الشخصيات الأكثر تأثيرًا في تاريخ إيران.
فترة الصدارة العظمى؛ بداية الإصلاحات
تولى أمير كبير منصب الصدارة العظمى في فترة مليئة بالأزمات، حيث كانت إيران تعاني من الفساد الإداري، النزاعات الداخلية، والضغوط الخارجية. وجاءت فترة ولايته خلال حكم "ناصر الدين شاه" القاجاري، الذي رغم صغر سنه اختار أمير كبير لهذا المنصب.
بمجرد تسلمه المنصب، شرع أمير كبير في تنفيذ إصلاحات شاملة. فقد عمل على تقليص نفوذ الفاسدين في البلاط، إلغاء الامتيازات الأجنبية غير العادلة، وتحسين الأوضاع المعيشية للشعب. ومن أبرز إنجازاته تأسيس "دار الفنون"، أول مؤسسة تعليمية عليا في إيران، التي تعكس رؤيته المستقبلية للنهوض بالبلاد.
كان أحد أهم أهداف أمير كبير الحفاظ على استقلال إيران في مواجهة القوى الخارجية، لا سيما روسيا وبريطانيا. عمل على تقليل الامتيازات الاقتصادية والسياسية الممنوحة لهما، وحارب التدخلات الأجنبية في شؤون البلاد الداخلية.
كما ركز أمير كبير على إصلاح النظام الضريبي، تعزيز القطاع الزراعي والصناعي، وتقوية الجيش، مما ساهم في وضع أسس اقتصاد وأمن قويين. ومن خلال تقليل نفقات البلاط ومراقبة الأجهزة الحكومية، قدم نموذجًا للإدارة الفعالة.
جهود أمير كبير لتحسين صحة الشعب الإيراني
حتى بداية عهد ناصر الدين شاه، لم تكن هناك عناية كافية بصحة الشعب ووسائل الوقاية من الأمراض، حيث كانت الفقر والأوبئة تنتشر على نطاق واسع. أمير كبير، الذي نشأ بين عامة الناس وكان على دراية عميقة بمعاناتهم، بذل جهودًا كبيرة لرفع مستوى الصحة العامة. من بين إنجازاته الرئيسية كان تعميم عملية التطعيم ضد "الجدري" في إيران. وبأمر منه، تمت ترجمة وطباعة الكتب الضرورية حول التطعيم باللغة الفارسية. كما قام بتوظيف مختصين في التطعيم برواتب مجزية، وأرسلهم إلى مختلف المدن.
إلى جانب ذلك، شملت جهوده مكافحة مرض "الكوليرا"، إنشاء أول مستشفيات حكومية، تدريب الأطباء، تحسين النظافة العامة في المدن، وجمع المرضى من الشوارع لتقديم الرعاية لهم.
أمير كبير واهتمامه المزدوج بالصناعة الغربية والإنتاج الوطني
في عصر شهد ذروة النهضة الصناعية في أوروبا، كانت دول مثل إيران ذات التاريخ العريق تعاني من التخلف. أدرك أمير كبير أهمية الصناعة وضرورة مواكبة التطور، فبنى سياساته على أساس تطوير الصناعة والنهوض بالزراعة.
سعى أمير كبير إلى زيادة الإنتاج الوطني وتقليل الاعتماد على الواردات. أنشأ مصانع لإنتاج السكر، النسيج، الورق، المعادن، الزجاج، والخزف في مدن مختلفة من إيران.
أمر بإدخال الآلات الحديثة إلى البلاد واستقدام المهندسين والصناعيين الأوروبيين لتعليم الصناعات المختلفة في إيران. كما تم التعرف على المناجم وبدأت عمليات استخراج المعادن.
كان أمير كبير شديد الحرص على تشجيع الابتكار الصناعي، حيث وعد بمنح مكافآت سخية لكل شخص يقدم حرفة جديدة أو يطور صناعة حديثة في البلاد.
اهتمام أمير كبير بازدهار الزراعة لتحقيق استقلال إيران
كان أمير كبير يؤمن بأن الاستقلال الحقيقي للدولة يتطلب الاكتفاء الذاتي وتأمين احتياجاتها من داخل أراضيها. لذلك، عمل على تعزيز الزراعة واتخذ العديد من الخطوات لتحقيق هذا الهدف.
ومن بين أهم إنجازاته في هذا المجال: توفير الأمن للمزارعين، تشجيعهم على إدخال التقنيات الحديثة في عملية الإنتاج، تخفيض الضرائب الزراعية، وبناء سد "ناصري" على نهر الكرخة وسدين آخرين في كل من گرگان وقم.
كانت هذه الجهود بمثابة البداية لحركة تطور زراعي استمر تأثيرها في السنوات اللاحقة، مما ساهم في تحسين الاقتصاد الوطني وتقوية الاستقلال الذاتي لإيران.
شخصية قريبة من الشعب ومناصرة للعدالة
كان أمير كبير رمزًا للعدالة وشخصية محبوبة بين الشعب الإيراني. لم ينظر يومًا إلى نفسه كفرد منفصل عن عامة الناس، بل سعى دائمًا لتقليص الفجوة الطبقية. مواقفه الحازمة ضد الفساد والرشوة، التي هددت مصالح العديد من المتنفذين في البلاط، أظهرت شجاعته والتزامه بالقيم الأخلاقية.
نهاية مأساوية لرجل عظيم
رغم شعبيته الواسعة بين الشعب، إلا أن إصلاحات أمير كبير أثارت عداوة العديد من المتنفذين في البلاط وحتى "ناصر الدين شاه" نفسه. ونتيجةً للمؤامرات ضده، تم عزله ونفيه إلى كاشان.
وفي يوم 20 دي 1230 هجري شمسي (10 يناير 1852 ميلادي)، قُتل أمير كبير في حمام "فين" بكاشان بأمر من ناصر الدين شاه، لتنتهي بذلك حياة رجل كرّس نفسه لخدمة إيران. ورغم هذه النهاية المأساوية، فإن إرثه وإصلاحاته ما زالت حية في وجدان الشعب الإيراني.
إرث أمير كبير؛ درس للمستقبل
أمير كبير ليس فقط رجل دولة، بل رمز للإصلاح والوطنية والشجاعة. الإصلاحات التي نفذها في مختلف المجالات تعد نموذجًا يُحتذى به لأي قائد يسعى لتحقيق تقدم واستقلال بلاده.
أثبت أمير كبير أن الإرادة الصادقة والتفاني يمكن أن تترك أثرًا دائمًا في تاريخ أمة. واليوم، يُذكر اسمه كرمز للأمل والإصلاح في عقول وقلوب الإيرانيين.
إن ذكرى استشهاد أمير كبير ليست مجرد مناسبة لاستذكار إنجازاته، بل فرصة للتأمل في دروس حياته. ففي فترة وجيزة، استطاع أن يُحدث تحولات جذرية في إيران، مؤكدًا أن الإرادة والإخلاص يمكن أن يصنعا التاريخ.
لتبقى ذكرى أمير كبير مصدر إلهام لكل من يسعى لإصلاح الوطن وتحقيق ازدهاره.
/انتهى/
تعليقك